الحملات الصليبية
جوتفريد من بايون، أحد قادة الحملة الصليبية الأولى وحاكم مملكة القدس

الحملات الصّليبيّة

في العصر القديم حين تبنّت الإمبراطوريّة الرّومانيّة الدّيانة المسيحيّة بشكلٍ رسميّ، بدأ الحجّ المسيحيّ إلى البلاد؛ إذ يوجد في البلاد المواقع الدينية الأهمّ والأكثر قداسة المتعلّقة بنشأة الدّين المسيحي.

كانت البلاد تحت حكم البيزنطيّين حتّى حكمها المسلمون في القرن الثّامن للميلاد، وتنافست سلالات عديدة على الخلافة الإسلاميّة، ولكن طوال فترة حكم المسلمين تمكّن الحجّاج المسيحيّين من زيارة البلاد ومواقعها المقدّسة وأداء شعائرهم تحت قواعد "أهل الذّمة" الإسلاميّة، ولكن حين تمكّن السّلاجقة من الوصول إلى الحكم واحتلال مناطق واسعة من الشّرق الأوسط في القرن الحادي عشر شعرت الإمبراطوريّة البيزنطيّة بالتهديد وطلبت المساعدة من الممالك المسيحيّة في غرب أوروبا.

دعا البابا اوربان الثّاني عام 1095 العالم المسيحي إلى الحملات الصّليبيّة أو الحرب المقدّسة من أجل تحرير المواقع المسيحيّة المقدّسة وقبر السيد المسيح من قبضة المسلمين، وقد خرجت بحماسة شديدة أعداد مهولة من جميع طبقات المجتمع؛ الأغنياء والفقراء والرّجال والنّساء والنّبلاء والبسطاء، والمشترك بين كلّ هؤلاء كان رمز الصّليب الّذي حملوه عليهم، ومن هنا سُمّوا بالـ"صليبيّين". في طريقهم إلى البلاد المقدّسة، هاجم الحجّاج فئات دينيّة وإثنيّة عديدة من بينها اليهود والمسلمين، سرقوا أملاكهم وقتلوا الآلاف. وبالمقابل، العديد ممن خرجوا في الحملات الصّليبيّة توفّوا قبل أن يصلوا البلاد إمّا جوعًا أو مرضًا. وفي النّهاية، تمكّن جيش كبير من الفرسان الصّليبيّين من الوصول إلى آسيا الصّغرى وهزيمة السّلاجقة. وفي عام 1099، قام الصّليبيّون بحصار القدس، التي كانت تحت حكم الفاطميّين، وفي النّهاية، في 15 تمّوز عام 1099، دخل الصّليبيّون أسوار القدس واحتلّوا المدينة.

أسس الصّليبيّون أربعة ممالك في البلاد، الجنوبيّة بينها هي "مملكة أورشاليم"، وأقاموا الحصون على النّمط الأوروبيّ وشيّدوا ورمّموا الكنائس، منها كنيسة القيامة وكنيسة القدّيسة حنّة في القدس، كنيسة الصّليبيّين في أبو غوش وبنوا مدينة كاملة في عكّا. ولكن لم تصمد الممالك الصّليبيّة كثيرًا، فقد واجهوا صعوبة البُعد عن أوروبا المسيحيّة وقلّة المسيحيّين الغربيين في الممالك.

لم يتوقّف المسلمون عن محاولات استعادة البلاد إلى حوزتهم؛ إذ انطلقت الحملة الصّليبيّة الثّانية عام 1147 بقيادة لويس السّابع ملك فرنسا وكونراد الثّالث ملك ألمانيا، إلّا أن هذه الحملة باءت بالفشل ولم تحقّق أي مؤازرة للصليبيّين في البلاد. وبعد بضعة عقود قام القائد المسلم صلاح الدّين الأيّوبي باستعادة القدس عام 1187 ممّا أثار المشاعر الدّينيّة لدى مسيحيّي أوروبا من جديد وخرج ملك انجلترا ريتشارد قلب الأسد والقيصر الألماني فريديريخ بربروسا في الحملة الصّليبيّة الثّالثة الّتي فشلت أيضًا.

في عام 1229، تمكّن القيصر الألمانيّ فريديريخ من الحصول على حكم القدس بالتّفاوض الدّبلوماسي، ولكن في 1244 قام المسلمون بالسيطرة على المدينة مجدّدًا. وفي السّنوات الأخيرة لحكم الصّليبيّين للبلاد، كانت عكّا مركز حكمهم وقوّتهم السّياسيّة والاقتصاديّة، إلّا أنّها سقطت أيضًا عام 1291.

خلال 200 عام تقريبًا، أثّر الصّليبيّون على ثقافة البلاد وساكنيها، وأيضًا على المخيال المسيحي في أوروبا عن الأرض المقدّسة. بقيت في البلاد آثار مذهلة من الممالك الصّليبيّة، وقد تعزّز الوعي العميق للعالم المسيحي ولوجود الأماكن المقدّسة الخاصّة به في البلاد، ولا يزال الحجّ المسيحيّ قائم حتّى يومنا هذا.