أركان الإيمان الثلاثة عشر
رسم لبطاقة بريدية للتاسع من آب، 1903 – 1914، مجموعة الصور، المكتبة الوطنية

أركان الإيمان الثلاثة عشر

تشكّلت اليهودية في العصور الوسطى، وتحديدًا منذ مطلع القرن الأول للميلاد وحتى نهاية القرن التاسع للميلاد، بصفتها "يهودية الشريعة"، أي كانت دينًا يركّز جلّ اهتمامه على المسائل الفقهية والشرائع المفروضة على طائفة المؤمنين. لهذا لن نجد في المصنّفات اليهودية في هذه الفترة آدابًا تقوم على الفكر والفلسفة ولا حتى لاهوت يؤسّس لأبعاد فكرية وعقائدية في اليهودية، بل جلّها تدور في فلك فقه الشريعة وأصوله. فحين نعاين المحاولات المتواضعة الواردة في التلمود البابلي بشأن تحديد "جوهر" العقيدة اليهودية، فإنها عرضت ذلك من خلال تحديد عدد الفرائض الواقعة على اليهود وهي 613 فريضة، وحاول بعض الأنبياء تقليصها إلى عدد أقل حتى بلغ بالأخير أن لخصها أحد الفقهاء في فريضة واحدة ترد في إحدى الجمل التوراتية ومفادها "لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض" (الخروج 20: 4)، أما بقية الفرائض فهي بمثابة التعليقات عليها والشروحات لها. ونشهد من جانب آخر اعتراضات، لا سيما في العصر الحديث، التي أكّدت على أن اليهودية، أسوة ببقية الديانات، أثّرت وتأثرت من البيئات الثقافية والاجتماعية التي عاشت بين ظهرانيها، ولهذا تعتبر اليهودية ديانة في طور التغير دائمًا برغم من وجود بعض العقائد الثابتة التي لا تتغير أبدًا. نلمس بعض الإشارات في التلمود التي تحاول أن تحدد عدد الفرائض (613) ولكنها تضيف أن بعض الأنبياء والأولياء قد اختزلوها: داود اختزلها لأحدى عشر (وهي المذكورة في المزامير، الإصحاح 15)؛ وإشعياء لست (إشعياء 33: 15-16)؛ وميخا لثلاث (ميخا 6: 8)؛ وعاد إشعياء واختزلها لاثنتين (إشعياء 56: 1)؛ وأخيرًا، اختزلها حبقوق لتصبح فريضة واحدة مفادها وجوب الاتكال على الله، ونصّها: "هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه، والبار بإيمانه يحيا" (حبقوق 2: 4).

كذلك، نقرأ في مكان آخر في التلمود قرارًا شرعيًا مفاده أن جميع فرائض الشريعة يمكن انتهاكها من أجل حفظ الحياة باستثناء ثلاثة حالات فقط وهي: ارتكاب القتل، أو عبادة الأوثان والأصنام، علاقات جنسية محرّمة (كالزنا وسفاح القربى).    

ولكن، مع نشوء العلوم والآداب الإسلامية، نشهد تحوّلات باطنية داخل اليهودية، لا سيما على يدي طائفة من رجال الدين والمثقفين اليهود المقيمين في الحواضر الإسلامية، كبغداد وحلب وقيروان وقرطبة، كإسحاق الإسرائيلي (نشط في القيروان، وتوفي في سنة 950م)، وسعيد بن يوسف الفيومي (المشهور باسمه العبري "سعاديا هغؤون، نشط في بغداد، وتوفي في سنة 942م)، ويعقوب القرقساني (نشط في بغداد، وتوفي في سنة 950م تقريبًا)، وأبو علي حسن بن علي البصري المشهور باسمه العبري يافث بن عيلي (نشط في القدس، وتوفي في العقد الأول من القرن الحادي عشر للميلاد)، وموسى بن ميمون القرطبي (نشط في قرطبة وشمال أفريقيا والقاهرة، وتوفي في سنة 1204م)، والكثير غيرهم.

لعب هؤلاء دورًا محوريًا في إعادة تشكيل اليهودية من جديد بحيث قامت على أسس فكرية إلى جانب الأسس الفقهية. فنلمس ظهور أنواعًا أدبية جديدة بين اليهود، بتأثير الآداب الإسلامية بصورة خاصة، كتفسير التوراة، وأدب المقالة، والنحو العبري، والفلسفة وأسس العقيدة وعلم الكلام (اللاهوت)، إلى جانب العلوم، لا سيما الطب والصيدلة. دخلت هذه الآداب والعلوم الجديدة إلى اليهودية وباتت جزءًا لا يتجزأ منها وعبّرت عن العقيدة اليهودية بصورة منهجية. ولولا هذه الآداب وهذه المستجدات الطارئة على اليهودية، لما كانت ستظهر حاجة لتحديد أركان الإيمان اليهودي، والتي تشكّلت بصورتها الأوثق في كتابات موسى بن ميمون.

بالرغم من المكانة المرموقة لكتابات ومصنّفات بن ميمون في العالم اليهودي، إلَّا أن العديد من رجال دين يهود مركزيّين منذ القرن الثالث عشر، لا سيما في أوروبا، رفضوا هذه القائمة بحجة أن العديد من العقائد لم تشملها هذه القائمة وكذلك أنه من العسير جدًا اختزال العقيدة اليهودية في قائمة عقائد محدّدة. أما في عصرنا الحالي، نشهد قبولًا مهيمنًا على العالم اليهودي بشأن هذه القائمة، بالرغم من وجود بعض الأصوات التي ترفض مكانتها الملزمة. وفيما يلي أركان الإيمان اليهودية، كما وضعها بن ميمون، بترجمة عصرية بقلم الطبيب والبحّاثة هلال فارحي (القاهرة، توفي في سنة 1940).