الفقه والأحكام اليهودية
كتاب أحكام الأحوال الشخصية وفق الشرع اليهودي، إعداد مسعود حاى بن شمعون، مجلدان (القاهرة: مطبعة كوهين وروزنتال، 1912- 1919)

الفقه والأحكام اليهودية

الشرع/الفقه اليهودي (الهلاخاه) هو تعبير ديني يهودي يشير إلى مجمل الوصايا الإلهية والقوانين التي أُمر الشخص اليهودي بالامتثال لها والتصرّف بموجبها، والتي جاء ذكرها صراحة أو إيماءً في التوراة وفي نقاش الحاخامات حولها. لا يتعامل هذا الشرع مع مسائل عقدية بل على ما يطلق عليه إسلاميًا تعبير "الأحكام الشرعية العملية"، وبهذا المعنى فالشرع اليهودي يرادف تعبير "الفقه" الإسلامي. يكمن المصدر الأول لهذا الفقه اليهودي في الكتاب اليهودي المقدّس، والذي يصطلح عليه عربيًا تعبير توراة، علمًا بأن "التوراة" هو الجزء الأول فقط من هذا الكتاب المقدّس والذي يضم خمسة أسفار. ولكن تذكر التوراة نص الوصية ولكنها لا تدخل في تفاصيلها وكيفية تطبيقها وبقية الشروط والتقييدات التي تتيح أو تمنع فرص تطبيقها. لهذا تولّدت منذ القدم الحاجة إلى مناقشة رجال الدين اليهودي لها ووضع مبادئ منهجية لاستنباط الأحكام بتفاصيلها وشروط تأديتها، ويذكر التلمود البابلي أن مجموع هذه الوصايا والقوانين المفروضة على الشخص اليهودي، فردًا وجماعة، هي 613 بالعدد، ولكنه لم يذكرها ولم يتوقف عند تفاصيل وشروط تأديتها. لهذا نشهد منذ نهاية القرن السابع للميلاد (الفترة التي يطلق عليها تعبير عصر "الغيئونيم" والذي امتد على طول خمس قرون حتى القرن الحادي عشر للميلاد) أن الحاخامات سعوا إلى تحديد هذه الوصايا والقوانين وتفصيلها وتبيان مصادرها في التوراة وشروط تأديتها.

ويطلق على نقاش الحاخامات هذا تعبير "نقاش حول الشرع" (ديون هلختي)، ويطلق على النتيجة التي يتوصّلون إليها تعبير "بساك هلاخاه" (الفتوى). ولكن لا يعني هذا التحديد أن باب النقاش قد توقّف، بل إن احتياجات ومسائل جديدة تظهر في كل عصر وفترة وتحتاج إلى نقاشات وتحديد كيفية التعامل معها، لهذا فإن باب النقاش لا يزال قائمًا حتى يومنا. وقد نتج عن هذه النقاشات في الفترات التاريخية المختلفة ما يطلق عليه تعبير "آداب الأسئلة والأجوبة"، وهي رسائل كان يرسلها رجال الدين اليهود من جميع أنحاء العالم إلى أهم مركز للفقه اليهودي في العراق بصورة خاصة حول مسائل طارئة في الشرع وكيفية التعامل معها. مع مرور الوقت جمعت هذه الأسئلة والأجوبة عليها وشكّلت سوية نوعًا في الآداب الدينية يطلق عليه اختصارًا تعبير "سفروت هشوت" (أدب الأسئلة والأجوبة). كما وأضاف الحاخامات على مدار السنين وصايا شرعية يطلق عليها تعبير "تقنوت" لا تتمتّع بنفس درجة أهمية الوصايا والأوامر التوراتية ولهذا فقد نعتوها بقولهم إنها "دربنان"، أي أنها موضوعة على أيدي الحاخامات، تمييزًا لتعبير "دأورياتا"، أي توراتية.

وعليه، يستند الفقه اليهودي إلى الكتاب المقدس بداية، وآثار السلف والمتمثّل في التلمود الذي يضم نقاشات السلف على الأحكام (المشناه) ثانيًا، ونقاشات على هذه النقاشات، ويرادفها إسلاميًا السنة النبوية، والأخذ برأي الأغلبية ثالثًا، ويتم في كل عصر اعتماد أهم المصنّفات السابقة بصفتها من أصول الفقه ويطلق عليها سوية بالعموم تراث السلف "سفروت حزال". فعلى سبيل المثال، بينما اعتبر التلمودان صلب النقاش الفقهي وأهم أصل فقهي، تحوّل سوية مع مصنّف "هلخوت غدولوت" الذي وضعه السلف في عصر "الغيئونيم" كأحد أصول الفقه، تواضع الاعتماد عليهما لاحقًا حين وضع الحاخام موسى بن ميمون القرطبي (ت. 1204م) مصنّفه "تثنية التوراة" (مشنيه توراه) بصفته تلخيصًا للأحكام التي وضعها السلف فيما مضى وأضحى من أهم أصول الفقه؛ وقد تهمّش هذا المصنّف إلى درجة ما حين وضع المصنّف "شلحان هروخ" للحاخام يوسف قارو (ت. 1575) في صفد في منصف القرن السادس عشر وأصبح من أهم أصول الفقه، ولا زال يحتل هذه المكانة حتى يومنا إلى جانب مصنّفات أخرى حديثة أقل أهمية. أما القياس، الذي يعتبر من أصول الفقه الإسلامي، فإنه غير معمول به في الفقه اليهودي.

مبدئيًا، يعتبر مجمل الشرع اليهودي تقليديًا مجموعة أحكام إلهية، وذلك لأن مصدرها إلهي، حيث نزلت على موسى في طور سيناء جميع نصوص التوراة بتفاسيرها وأحكامها، وتناقلتها الأجيال ودرستها، وفق أحد التفسيرات فحتى الخلافات بين الحاخامات حول تفسير أي أمر أو حكم نزلت على موسى منذ بداية الرسالة وقيل إن جميع التفاسير المختلفة والمتناقضة قد نزلت على موسى. أما في العصر الحديث، فقد ظهرت فرقًا جديدة، أهمها اليهودية المحافظة، اعتبرت الفقه وجميع الشرع برمّته اجتهادًا بشريًا صرفًا قام به الحاخامات لملاءمته للظروف والاحتياجات الطارئة والمختلفة.