الفقه والأحكام اليهودية
كتاب أحكام الأحوال الشخصية وفق الشرع اليهودي، إعداد مسعود حاى بن شمعون، مجلدان (القاهرة: مطبعة كوهين وروزنتال، 1912- 1919)

الفقه والأحكام اليهودية

"ليست هي بالسّماء"، عبارة مقتبسة من جملة توراتية وردت في سفر التثنية (30: 12)، وتعتبر سندًا شاعئًا منذ الفقهاء اليهود السلف وحتى عصرنا للقول إن الأمور الشرعية وسيرورة التوصّل إلى الأحكام والفتوات الشرعية وكل ما يتعلّق بذلك إنما يرتبط بمناقشة الفقهاء حصرًا دون اللجوء إلى معايير وعوامل غير بشرية.

تعتبر مسألة مصادر سلطة مناقشة المسائل الفقهية وتحديد الشرائع غير التوراتية من المسائل المفاجئة، لا سيما للجمهور المسلم، لأن السلف اليهودي قد فرض أنه يتعيّن على الفقهاء أن لا يعتمدوا على الوحي أو الأحلام أو الإلهام في مناقشاتهم للمسائل الفقهية، بل عليهم أن يلتزموا بالعقل البشري واجتهاد الفقهاء حصرًا للبت في المسائل الفقهية. تحوّل النقاش الفقهي بين رجال الدين اليهود منذ خراب الهيكل الأول (70م بالتقريب) شيئًا فشيئًا إلى خلاف مبدئي بشأن مكانة الوحي بمختلف درجاته ومراتبه والمعجزات و"هاتف من السّماء" (بت قول) في المسائل الفقهية. فقد تحوّل النقاش إلى خلاف بشأن مصادر سلطة البت في المسائل الفقهية، هل يمكن الاعتماد على رسائل أو إشارات إلهية في تحديد الشرائع فقهيًا والبت عمومًا في مسائل فقهية، أم لا. فيمكن أن يأتي أحد الفقهاء في سياق مناقشة مسألة فقهية معينة ويدّعي استنادًا إلى عبارة توراتية معينة، أو القول إنه جاءه الوحي في الحلم أو في اليقظة ليخبره بالشرع "السليم" الذي يجب التوصّل إليه في المسألة الفقهية المطروحة؛ بينما يأتي فقيه آخر فيدّعي مثله ولكن وحيه أخبره بشرع "سليم" آخر يجب اعتماده. ما هو العمل في مثل هذه الحالة؟ يتمثّل الحل الذي توصّل إليه الفقهاء حقبة "الثنويّين" (تنائيم – من لغة التلقين وقراءة وفحص النص على الدوام مرة بعد الأخرى، 70-130م) في أنَّ المسائل الفقهية مرتبطة حصرًا بالفقهاء أنفسهم والحجج التي يطرحونها واعتماد رأي الأغلبية في نهاية المطاف، استنادًا إلى العبارة التوراتية "وراءَ الأكثر فَمِلْ" (الخروج 23: 2)، والتي تحوّلت إلى إحدى وصايا التوراة الـ613 المفروضة على اليهود جماعة وأفرادًا.

ترد في إحدى صفحات التلمود البابلي (الباب الأوسط 59ب) قصة تعالج خلافًا فقهيًا ظهر بين هؤلاء الفقهاء، ودار هذا الخلاف حول مسألة فقهية محدّدة مرتبطة بالطّهارة والنّجاسة، ومنها توصّل الفقهاء إلى المبدأ الفقهي الأساسي القائل إن الفقه اليهودي هو ثمرة مناقشة الفقهاء وليس مرتبطً أبدًا بأمور غير بشرية. وقد حافظت المشناه، وهي جامع للأحكام اليهودية التي توصّل إليها فقهاء ما قبل خراب الهيكل الأول، كما وترد فيها مناقشات مختصرة جدًا بين الفقهاء، بينما حافظ التلمودان، البابلي والفلسطيني (أو المقدسي)، بصورة أكبر بكثير على مناقشات فقهاء حقبة ما بعد الخراب، ومكتوب بالعبرية والآرامية.

في الخلاصة نقول إن الفقهاء السلف قد حدّد لنفسه مبدأ منهجيًا ملزمًا مفاده أنه لا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية، وذلك استنادًا إلى عبارة توراتية "ليست هي بالسّماء" (التثنية 30: 12)، بل ترتبط هذه المسائل بصورة حصرية بالفقهاء أنفسهم وبالسيرورة التي تفضي إلى تحديد الأحكام والشرائع، وأنه يجب اعتماد رأي أغلبية الفقهاء في إصدار الأحكام بشأنها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح المبدئي استُخدم كذلك في تفسير التوراة ودراسة آثار الفقهاء السلف، فالتوراة بعد أن نزلت على موسى أصبحت بين يدي البشر، وهم المخوّلون حصرًا للبتّ فيها وتفسيرها، ولا دخل للرّب ولا للوحي في هذه الأمور.